الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
قال محمد بن رشد: قد جاء في التفسير عن عبد الله بن عتبة، وابن أبي مليكة، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب عسلا عند زينب بنت جحش، فاجتمعت عائشة وحفصة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن تقولا له إنا نشم منك ريح المغافير. والمغافير صمغ- متغير الرائحة، ويقال إنها بقلة واحدها مغفور- بضم الميم- فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له إني أشم منك ريح المغافير، فحرم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب العسل. وقيل إنه حلف على ذلك، وإن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] نزل في ذلك. وقد ذكرنا هذا قبل هذا في هذا الرسم في هذا السماع، والله أعلم عند من شرب العسل منهما. ويحتمل أن يكون شربه عند كل واحدة منهما من زينب وحفصة، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك المحروم بأنه الفقير الذي لا يسأل صحيح؛ لأن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] يدل أن السائل غير المحروم، إذ لا يعطف الشيء إلا على غيره لا على نفسه. وكذلك القانع هو غير المعتر في قوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فالقانع الفقير المتعفف الذي يقنع ولا يسأل، والمعتر الذي يعتريك يسألك في كفه. والبائس الفقير في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] هو الضعيف الفقير. وقيل في الفقير إنه الذي به زمانة. وقد اختلف في الفقير والمسكين في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فقيل الفقير الذي له البلغة، والمسكين الذي لا شيء له؛ وقيل الفقير الذي لا شيء له، والمسكين الذي له الشيء؟ وقيل الفقير الذي لا مال له وليس به زمانة، والمسكين الذي به زمانة؟ والفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل؟ وقيل الفقير من المهاجرين، والمساكين من غير المهاجرين، وقيل الفقير المسلم، والمسكين من أهل الذمة، وروي ذلك عن ابن عباس، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: رد مالك تأويل هذه الآية إلى معنى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقد قيل في معنى قوله: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] أي اعمل في دنياك لأخراك، ولا تترك حظك من الدنيا الذي هو طاعة ربك وعبادته، وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن إليك. وقيل معناه وأحسن في الدنيا بإنفاق مالك الذي أتاكه الله في سبيله ووجوهه، وسع به عليك، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على الراسخين في العلم من هم، وهل يعلمون تأويل المشتبهات أم لا، في رسم البز من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: أجاز أن يقرأ الواحد على الواحد وعلى الجماعة، وهذا هو المختار المستحسن الذي لا اختلاف فيه. وكره أن تقرأ الجماعة على الجماعة وعلى الواحد، وقد اختلف قوله في ذلك: فخففه في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في رسم سلعة سماها منه. فوجه الكراهة في ذلك أنه إذا قرأت الجماعة على الواحد لابد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ما دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على من يصغي إليه منهم، فقد يخطئ في ذلك الحين ويظن أنه قد سمعه وأجاز قراءته، فيحمل عنه الخطأ ويظنه مذهبا له. وكذلك إذا قرأت الجماعة على الجماعة؛ لأن كل واحد من الجماعة التي تقرأ عليها الجماعة لابد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ما دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على من يخطئ منهم. ووجه تخفيف ذلك المشقة الداخلة على المقرئ بإفراد كل واحد من القراءة عليه إذا كثروا، ووجه تحسينه لذلك إنما معناه، والله أعلم، إذا كثر القراء عليه حتى لم يقدر أن يعم جميعهم مع الإفراد، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم، فهذا تأويل ما ذهب إليه مالك، والله أعلم. وأما اجتماع الجماعة في القراءة في سورة واحدة أو في سور مختلفة دون أن يقرؤوا على أحدهم فهو من البدع المكروهة لم يختلف قول مالك في ذلك. وقد مضى الكلام على ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى وبالله التوفيق.
{وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] من هي؟ قال هي أمه. قال محمد بن رشد: هذا قول الحسن؟ وقيل في فصيلته التي تؤويه إنها أدنى قبيلة منه، قال ذلك أبو إسحاق؛ وقال الكلبي الفصيلة أصغر من الفخذ سميت بذلك حين انفصلت من الفخذ، ثم العشيرة وهم بنو الأب الأدنى الذي يجمعهم. قال والعشيرة كعبد مناف من قريش، والفضيلة كقصي بن كلاب، والفخذ كلؤي بن غالب. وقال أبو عبيدة: فصيلته فخذه. قال أبو جعفر، وابن الكلبي أعلم بذلك منه، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: قرأ بعض من شذ عن السبعة مصر- بغير ألف- فعلى هذا لا يشكل أن المراد بها- مصر نفسها، أي مصر فرعون، كما قال مالك، مثل قوله عز وجل: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] ولم يقرأ أحد من السبعة مصر بغير ألف؛ لأن القراءة بذلك تخالف المصحف. وفي القراءة بالألف وجهان: أحدهما أن يراد بها مصر بعينها، أي مصر فرعون كما قال مالك: بجعل مصر اسما للبلد فصرف لأنه مذكر سمي به مذكر، والثاني أن يراد بها مصر من الأمصار لأنكم في البر البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي ولا في الفيافي، وقد قيل إن مصرا هذه الأرض المقدسة، وبالله التوفيق.
{كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وسئل مالك، عن قول الله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] أهو النوم؟ قال: نعم. قال محمد بن رشد: الهجوع: النوم، كما قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ فمعنى ما وصفهم الله عز وجل به أنهم كانوا لا ينامون من الليل إلا قليلا لسهرهم فيما يقربهم من ربهم. والتقدير على هذا كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وما صلة لا موضع لها من الإعراب، والقليل منصوب بيهجعون، فالمعنى كانوا يهجعون قليلا من الليل. وقد تكون ما في موضع رفع كأنه قال كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في معنى الآية: كانوا يستيقظون ويصلون ما بين هاتين الصلاتين المغرب والعشاء، قال أي لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون فيها ولو شيئا. فعلى هذا القول تكون ما جحدا، ويكون المعنى الإخبار عنهم بأنهم يسهرون قليلا من الليل ولا ينامونه. والقول الأول أولى؛ لأن الله وصفهم بكثرة العمل وسهر الليل وقيامه في العبادة، وبالله التوفيق.
أي خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير. قال محمد بن رشد: تفسير مالك صحيح واضح؛ لأن الله تعالى خلق عباده لما يسرهم له مما قدره عليهم من طاعة وإيمان يصيرون به إلى الجنة، أو كفر وعصيان يصيرون به إلى النار، يتبين ذلك من تفسيره قوله إثر ذلك: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود: 119] أي سبقت كلمة ربك {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] أي من كلا الفريقين من الجنة والناس أجمعين، أي من بعضهم لا باستيعاب جميعهم؛ لأن من تدل على التبعيض. وقوله في أول الآية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] أي على ملة واحدة وهي الإيمان والإسلام مثل قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]. وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] معناه ولا يزال من الناس من أهل ملل الكفر يختلفون فيما يدينون به من أنواع الكفر؛ لأنهم في ريب من أمرهم وشك لتكذيبهم الحق. قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] أي ملتبس، وعامة الناس كفار. فقوله عز وجل: {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] وهم المؤمنون، استثناهم الله عز وجل من الناس فعلم بذلك أنهم لم يدخلوا في عموم قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] إذ لم يختلفوا فيما يختلف فيه الكفار من البعث والتوحيد والإقرار للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة. فقول من قال في تأويل قوله عز وجل: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] إنه خلقهم للاختلاف، أو إنه خلقهم للرحمة لا يصح، إذ لم يخلق جميعهم للاختلاف ولا للرحمة، بل خلق الكفار منهم للاختلاف. والعذاب، والمؤمنين منهم للاتفاق والرحمة، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين، رأى أن يتبع في كتاب المصاحف هجاء المصحف القديم وأن لا يخالف ذلك، كما اتبع ما وجد فيه من ترك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة براءة، وكره النقط في الإمام من المصاحف والشكل على ما قاله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة؛ لأن النقط والشكل مما اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأن ذلك نزل، وقد يختلف المعنى باختلافه فكره أن يثبت في أمهات المصاحف ما فيه اختلاف. ورخص في صغار المصاحف التي يتعلم فيها الولدان أن تشكل وتنقط، وأجاز لمن كتب القرآن في اللوح أن يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في افتتاح السورة، يريد كانت براءة أو غيرها، وفي وسطها وفي آخرها. وقوله وإنما الذي أكره أن يكتب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة في المصاحف لأنه يتخذ إماما فلا أرى أن يزاد في المصحف ما ليس فيه، معناه في سورة براءة؛ لأن سورة براءة هي التي لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أولها، وأما سائر السور فبسم الله الرحمن الرحيم ثابت في أول كل سورة منها. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم الوجه في ترك كتاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة براءة، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن الحين في قوله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] هل هو ما بين أن حمل به إلى أن وضعته أمه من أجل أن الإنسان لم يكن قبل ذلك إنسانا. والتلاوة إنما هي {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] فقول مالك أن الحين ها هنا ما مضى من الدهر كله وقبل أن يخلق آدم، يقتضي أن قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]. مجاز من القول تقديره: هل أتى على عالم الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا خرج مخرج {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية، وهل هنا ليست استفهاما، وإنما هي بمعنى التقرير والوجوب، فمعنى الكلام على هذا: ألم يعلم الإنسان بالنظر الصحيح أنه قد مضى دهر طويل قبل أن يخلق ولم يكن شيئا مذكورا عند أحد من الخلق؛ لأنه لم يزل في الأزل مذكورا معلوما عند الله أنه سيخلقه. وقد قيل إن المراد بالإنسان هاهنا آدم، وبالحين أربعون سنة وهي المدة التي كان فيها آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ طينة لم ينفخ فيه الروح، روي ذلك عن ابن عباس. ومعنى الكلام التقرير والتوبيخ وإقامة الحجة على من أنكر البعث، وكأنه معطوف على خاتمة السورة التي قبلها قوله فيها: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ألم يأت دهر طويل لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا فقال إن من أحدثه بعد أن لم يكن، وكونه بعد عدمه، قادر على إحيائه وبعثه بعد موته، كما قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] وقوله بعد ذلك: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الإنسان: 2] أي ولد آدم، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] يعني ألوانا مختلطة، ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، والولد يكون منهما جميعا. وبالله التوفيق.
والأشد جمع، واحده شد في قول الكسائي والفراء، إلا أن الفراء قال: لم أسمعه ولكني قسته على شد النهار وهو ارتفاعه، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: اختار عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السفر للتجارة على القعود؛ لأن الرجل يؤجر على طلب الربح في ماله ليعود به على عياله، أو ليستغني به عن الناس، أو ليفعل به خيرا.
قال محمد بن رشد: فاستخلف عمر بن عبد العزيز، وكان استخلافه له فيما ذكر على ما حكي عن رجاء بن حيوة. قال: لما وعك سليمان بن عبد الملك جعل العهد بعده- لبعض بنيه، وكان الذي عهد إليه غلاما لم يبلغ الحلم. فقلت يا أمير المؤمنين، إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين رجلا صالحا مرضيا، قال صدقت، ومزق الكتاب الذي كان كتب بعهده، ثم قال: فما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت يا أمير المؤمنين هو غائب عنك بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت، فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت أعلمه والله خيرا فاضلا، فقال هو كذلك، وإن وليته- ولن أولي أحدا غيره- ليكونن فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يكون أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم، قال فجعل يزيد بن عبد الملك بعده فإن ذلك مما يسكنهم، فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين، فكتب: هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليتك الخلافة بعدي، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب وجمع أهل بيته، فلما دخلوا عليه وسلموا قال لهم: هذا الكتاب عهدي وهو يشير إليه بيد رجاء بن حيوة، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا لمن سميت فيه، فبايعوا رجلا رجلا ثم خرجوا والكتاب مختوم في يد رجاء بن حيوة. قال رجاء فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال لي: إني أخشى أن يكون هذا الأمر أسند إلي فأنشدك بالله وبما بيني وبينك إلا ما أعلمتني فنستدرك الأمر في حياته بالاستعفاء، فقلت: والله لا أخبرك بحرف، فذهب علي غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: أنشدك بالله وبما بيني وبينك إلا ما أعلمتني بهذا الأمر، فإن كان لي علمت، وإن كان لغيري تكلمت، فليس مثلي ممن يقصر به، فقلت والله لا أخبرك بشيء مما أسر به إلي، فانصرف وقد يئس وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى. فلما حضرته الوفاة قال: الآن يا رجاء فحولني إلى القبلة، فحولته إلى القبلة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فلما قضى نحبه غمضته وسجيته بقطيفة خضراء، وأرسلت إلي زوجته كيف أصبح؟ فقلت هو نائم وقد تغطى، فنظر رسولها إليه فرجع وأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم، فجعلت على الباب من أثق به ووصيته أن لا يبرح حتى آتيه ولا يدخل على الخليفة أحد، وأرسلت إلى أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت بايعوا، فقالوا قد بايعنا مرة ونبايع أخرى. فقلت هذا عهد أمير المؤمنين أن تبايعوا ثانية لمن سمى في هذا الكتاب، فبايعوا ثانية رجلا رجلا. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان ورأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات أمير المؤمنين، فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم قرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك لا نبايعه أبدا، فقلت إذا والله أضرب عنقك قم فبايع، فقام يجر رجليه فبايع. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فكان يرجى لسليمان بن عبد الملك بتوليته عمر بن عبد العزيز وتركه ولده أن يؤجر على ذلك ويجازى به. ولما غسل سليمان وكفن صلى عليه عمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من كفنه أتي بمراكب. الخلافة فقال: دابتي أوفق لي، فركب دابته وصرفت تلك الدواب. ثم أقبل سائرا فقيل له: تعدل إلى منزل الخلافة، فقال فيه عيال أبي أيوب، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغ له، وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: محمد بن مسلمة هذا الأنصاري الخزرجي من فضلاء الصحابة، شهد بدرا وسائر المشاهد، وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف، واستخلفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض غزواته على المدينة، فاعتزل الفتنة ولم يشهد الجمل ولا صفين. وروي أنه إنما اتخذ سيفا من خشب وجعله في جفن وذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بذلك. والذي فعل من ذلك هو كان الواجب عليه بما كان عنده فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والذين اعتزلوا الفتنة من الصحابة سواه على ما روي ثلاثة: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، لم تبن لهم البصيرة في اتباع إحدى الطائفتين فكفوا؛ وسائرهم دخلوا فيها بما ظهر لهم من البصيرة باجتهادهم، فكلهم محمود؛ لأنهم فعلوا الواجب عليهم في ذلك باجتهادهم، فلا يتأول على أحد منهم غير هذا، إذ هم خير أمة اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، وأثنى عليهم في غير ما آية من كتابه فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] إلى قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] وبالله التوفيق لا شريك له.
قال محمد بن رشد: هذا من تواضعه وورعه وقنوعه بالدون من اللباس في خلافته، معلوم من سيرته. فقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم أنه أمر رجلا يشتري له ثوبا بستمائة درهم للحاف فسخطه، فلما ولي أمر ذلك الرجل أن يشتري له كساء بسبعة دراهم، فلما جاءه به أخذه فلبسه ثم تعجب لحسنه، فضحك الرجل، فقال له: إني لأظنك أحمق تضحك من غير شيء، قال: إنما ضحكت لمكان اللحاف الذي أمرتني أن أشتريه بستمائة درهم، قال فمضت ساعة ثم قال: أخشى أن لا يشتري أحد ثوبا بستمائة درهم وهو يخاف الله. وترك أيضا في خلافته أن يخدم على ما مضى في الرسم المذكور، فكان يدخل بعد المغرب فيجد الخوان موضوعا عليه منديل فيتناوله فيقربه إليه ويكشف المنديل فيأكل ويدعو عليه من كان معه، وبالله التوفيق.
|